حلب الدر المنتخب :

حلب الدر المنتخب :

استوطنت منطقة حلب منذ فجر التاريخ من قبل المجموعات البشرية وتقدم لنا آثار تل المربيط نموذجاً لمستوطنة زراعية تعود للألف التاسعة قبل الميلاد ومن المؤكد أن مغاور حلب الحوارية شهدت بدايات العصور الحجرية


عاصرت مملكة حلب . دولة ابلا والدولة الأكادية بالألف الثالثة قبل الميلاد ويذكر الملك الأكادي " نارام سن " انه فتح عام 2450 ق. م أعظم مدينتين لم يفتحهما قبله احد في التاريخ هما حلب " أرمان " وابلا

مملكة يمحاض :
ظهرت هذه المملكة في منطقة حلب عندما سكن من قبل العرب العموريين الذين وفدوا إليها من شبه الجزيرة العربية في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد :وأقاموا فيها هذه المملكة التي لعبت دوراً سياسياً بارزا حتى أن ملكها (باريم ليم ) انجد حمورابي ملك بابل و كانت سلطته تمتد كما تذكر النصوص عشرة ملوك . حكمت منطقة حلب بعد ذلك من قبل الحثيين و المصريين وذكرها رعمسيس الثاني على مدونات أعمدة الكرنك باسم "حلربو "

ممالك الآراميين :
أقام العرب الآراميين فيها منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد عدة ممالك أشهرها مملكة ارباد " تل رفعت " اليوم ما يزال تلها الأثري و معالمها التاريخية شاهدة على عظمة تلك الدول .

ومملكة (بيت اغوي )في الشمال بالإضافة إلى مدينة هيرابوليس " منبج " العاصمة الدينية الأولى عند الآراميين والتي اشتهرت بأسوارها المنيعة ونظام السقاية و القنوات فضلا عن معبد الرنة " اتراكاتيس "
والإله " حدد " . خضعت منطقة حلب عام 539 ق .م للسيطرة الفارسية إلى أن فتحت من قبل الاسكندر عام 333 ق . م خلال زحف جيوشه نحو الشرق حيث قدم القرابين لمعبود حلب الوطن الإله " حدد " وفي عهد الدولة السلوقية أقام الإمبراطور" سلوقس نيكاتور " داخل حلب مدينة كمستعمرة مقدونية على الطراز الهلنستي حيث الشارع الرئيسي و الشوارع المتعامدة التي تصب بالساحة الرئيسية ـ الايغورا ـ وكانت المدينة محاطة بسور مربع الشكل طول ضلعه حوالي 1500 م وحملت في ذلك الوقت اسم " بيروا "

السيطرة الرومانية :
سيطر الرومان على سورية عام 64 ق م وبرز في عهدهم إلى جانب مدينة حلب سيريوس " النبي هوري" اليوم وتقع إلى الشمال الشرقي من عفرين حيث كانت مركز ولاية هامة تضم حامية كبيرة للجند وقد صكت النقود فيها بعهد الإمبراطور " اسكندر بالا " عام 150 م وتضم المدينة داخل أسوارها (وسط منطقة رائعة الجمال ) قلعة ومدرجا يتسع لثلاثة آلاف مشاهد و معسكرات للجنود و ضريحاً لأحد الملوك بالإضافة للقصر الملكي و تتصل بمدين ة إعزاز التاريخية بجسرين رومانيين أقيما على نهر الصابون احد روافد نهر عفرين وما تزال شواهدها التاريخية إلى يومنا هذا
كما لعبت قنسرين دوراً كبيرا في هذه الفترة وكان الطريق الروماني المكون من الحجارة الضخمة بعرض 6 م يمتد من أنطاكية إليها ليتصل بدمشق وكانت حلب آنذاك مضافة إلى قنسرين وتعني قنسرين بالآرامية " قن النسور "

وقد تعرضت البلاد في عهد الروم البيزنطيين لاستنزاف اقتصادي و اضطهاد ديني ولا سيما مطلع القرن السادس الميلادي

الفتح العربي :
فتح العرب المسلمين في البداية مدينة قنسرين وتوجهوا منها إلى حلب بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد حيث دخلوها صلحا عام 16هـ الموافق 637 وسط ترحيب الأهالي ابتهاجاً بأبناء عمومتهم
وخلاصاَ من استبداد الروم واستسلمت الحامية الرومانية في قلعتها والمؤلفة من 12000 جندي وتابعت الجيوش العربية طريقها نحو تحرير الباب و منبج و إعزاز و سيريوس و تفيات المنطقة بظلال العرب الفاتحين

وقد أطلق عليها العرب اسم الشهباء نسبة إلى لون حجارتها البيضاء وكلمة حلب بالسريانية تعني البيضاء ولعل العرب الفاتحين ترجموا هذه التسمية إلى لغتهم فقالوا حلب الشهباء .

برزت المنطقة حلب كحاضرة عظيمة خلال الحكم الراشدي والأموي والعباسي وكانت تمثل خط الدفاع الأول عن جسم الإمبراطورية العربية

فقد حضنت أسوار وأبراج المدينة وامتدت القلاع في مختلف أنحاء الثغور ورافق ذلك بناء المساجد و المدارس وسكن سليمان بن عبد الملك في دابق شمالي حلب وأقام عمر بن عبد العزيز في بلدة خناصر وكانت قنسرين مركزاً للجند ضربت فيها النقود وبلغ خراجها زمن معاوية بن أبي سفيان 450 ألف دينار

الإمارة الحمدانية :
تبوأت حلب مكانتها في عهد العباسين عندما احتضنت الإمارة الحمدانية بقيادة سيف الدولة , الذي تصدى بشجاعة و بسالة للروم البيزنطيين و جرد ضدهم ما يزيد عن أربعين حملة غدت سدى و لحمة مجده الأسطوري و الذي خلدها أبو الطيب المتنبي بقصائده وهو يرافق سيف الدولة في حروبه ومن إشعاره :

وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الإبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
كما اهتم سيف الدولة بعمران المدينة وبناء الأسوار و الحصون


بالإضافة إلى تشجيع الحركة الفكرية حيث أسس في حلب مكتبة عامرة وغدا بلاطه موئلا للأدباء و العلماء فقد عاش في قصره أعظم شعراء العرب كالمتنبي و أبي فراس الحمداني و الموسيقي البارع أبي النصر الفارابي و الخطيب البليغ ابن نباته , و العالم اللغوي ابن خاليه و النحوي الشهير ابن جني و الأصفهاني وابن خلكان و ياقوت الحموي

في وجه الخطر الصليبي :
حيث انبعثت إرادة القتال و الثبات عندما لاح الخطر الصليبي يهدد بلاد الشام من جديد في عهد نور الدين الزنكي و صلاح الدين الأيوبي فقد سيطر الصليبيون على الرها و أنطاكية و إعزاز و الاتارب ووصلوا بقواتهم إلى أسوار حلب من جهة سور باب قنسرين لقد كانت تلك المقاومة بداية الطريق لحروب التحرير ضد الحملات الصليبين والى معركة حطين .

وقد اهتم الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الذي تول إمارة حلب بإصلاح المدينة و ترميم قلعتها و أسوارها و أبوابها و مدارسها و تمديد قناة حيلان إليها فضلا عن توسيع دائرة السور لتشمل الأبنية الجديدة من الجهة الشرقية .


عودة السيطرة الأجنبية :
تعرضت إمارة حلب لغزوات التتار في عهد تيمور لنك ثم لحكم المماليك ومن بعدهم للسيطرة العثمانية حيث تراجعت البلاد سياسياً و عسكرياً و حضاريا . نتيجة عودة النظام الإقطاعي و فرض ضرائب الالتزام وابتزاز الولاة وظلم الانكشارية , حتى إن الرحالة الايطالي فوليني يذكر انه من أصل 3200قرية في حلب كانت تدفع الخراج في بداية الاحتلال العثماني لم يبقى منها سوى 400 قرية في نهاية القرن الثامن عشر .

اليقظة العربية و مواجهة الاحتلال :
لعبت الشهباء دوراً بارزا في اليقظة العربية و التنبه القومي فيها أسست أول مطبعة في الوطن العربي عام 1704 أي قبل وصول المطبعة الحديثة إلى مصر مع حملة نابليون بحوالي قرن .
وأسست المدارس منذ عهد الحكم المصري أيام محمد علي باشا .

وازدهرت بمركزها التجاري حيث اعتبرت بوابة الوطن العربي و كانت خاناتها تعج بالتجار الانكليز و الايطاليين و الهنود و الألمان وعندما زارها الشاعر الفرنسي لامارتين عام 1831 م أعجب بنظافة المدينة و ثقافة أهلها و أطلق عليها اسم ( أثنية الأسيوية )

ساهم أعلامها أمثال عبد الرحمن الكواكبي و راغب الطباخ وكامل الغزي في البعث الأدبي و الفكري و إصدار الصحف و التصدي لاستبداد العثمانيين حتى تخلصت من حكمهم فاتحة اذرعها لرسل الثورة العربية عام 1918 م .


الطريق إلى الاستقلال وبدايات البعث :
عاشت ولاية حلب حلماً قومياً خلال فترة الحكم العربي لها والذي لم يدم طويلا بين عامي
1918 _ 1920 م حيث بدأ التآمر الاستعماري الأوربي و الاحتلال الفرنسي لبلادنا .

واكبت حلب المقاومة الوطنية بوجه الفرنسيين و تصدت لطلائع قواتهم الزاحفة من تركيا في معركة المسلمية يوم 22 تموز 1920 بقيادة الجنرال غوبو .. وكانت تلك المعركة الأولى التي خاضها قطرنا ضد الاحتلال الفرنسي فقد سبقت معركة ميسلون بيوم واحد .. كما قاد إبراهيم هنانو بين عامي 1919 _ 1920 م الثورة في محافظة الشمال والتي استمرت تخوض المعارك بكفاحها الدموي مع الثورة السورية الكبرى
عام 1925 م كما انطلقت منها مسيرة الإضراب الستيني عام 1936 م وتابعت الشهباء في الأربعينيات نضالها وهي تحمل جراح اللواء السليب حتى خفقت رايات الجلاء و الاستقلال .. وهي تحتضن بدايات البعث العربي الاشتراكي ملتحفة بعباءته العربية متفيئة بظلال مبادئه وثورته متطلعة إلى تحقيق رسالته الخالدة في الوحدة و الحرية و الاشتراكية .