مكان ككل الأماكن الأخرى بالمقاييس الهندسية , لكنه يتمتع بنكهة خاصة.. يتجمع فيه الشباب المثقف دون موعد مسبق, إذ يشرع أبوابه في كل الأوقات. لم أدخل ذاك الدكان مرة, إلا وتواجد فيه عدد من الأصدقاء الكتّاب والمثقفين, يوحدهم التقارب العمري والفكري والاجتماعي – كما أرى - كثيرة هي الأحاديث التي تدور وتتشعب, ولأن مقالتي السابقة ( نقل مباشر لوقائع جلسة نميمة علنية ثقافية ) لاقت رواجاً بين أوساط القراء الذين طالبني بعضهم بنقل مماثل, أحاول ههنا التماس مع ذلك, لكن الحديث هذه المرة بدا لي مختلفاً وربما أكثر حزناً, وإليكم بعض التفاصيل:
[size=16]بعد السلام والاطمئنان على أحوال الجميع العقلية والكتابية والتي تراوحت بين المتوسطة ودون الوسط, بدأنا الحديث منطلقين من عالم القصة, وخصوصية القصة السورية أو المصرية, ثم عرجنا على العالمية, ومتى يكون النص الأدبي عالمياً! يقول أول: إذا أزلنا أسماء الشخصيات والأماكن, ولم نتمكن من معرفة إلى أي دولة ينتمي هذا النص, ربما قلنا إنه نص أدبي عالمي.. ثمة فرح وبؤس إنسانيان مشتركان يحركان مشاعر الجميع في شرق الأرض وغربها !
[size=16]تنتقل دفة الحديث مباشرة إلى النقد, وطرح سؤال هو ليس جديداً على أي حال: هل توجد نظرية نقدية عربية ؟ قديماً وتاريخياً كان هناك مثل هذه النظرية كما في أيام الجرجاني ! يعترض ثانٍ: في زمان الجرجاني كان الأدب العربي أدباً عالميأ إذ لم يكن له منافسون, أو على الأقل لم تتوفر ترجمات للآداب الأخرى! يقول ثالث: هل نتذكر خصوصية الروايات الأوربية في القرن التاسع عشر؟ ولكن ماذا عنها الآن؟ إنها لا تحمل خصوصية, لقد اختلف العصر! يتابع الأول: بالعودة إلى موضوع النقد العربي أيام الجرجاني, لقد كان معتمداً على البلاغة أكثر من اعتماده على أي شيء آخر, كان نقداً بلاغياً يختلف عن النقد القائم اليوم, كالنقد الثقافي والمعرفي...
[size=16]يسأل رابع: لماذا تميز النقاد العرب في المغرب العربي؟ إنهم نقاد كبار! نتشاطر المداخلات: لأنهم تواصلوا مع أوروبا وخاصة فرنسا! تواصلوا مع المدارس الفكرية ذات التماس مع الجامعات في الغرب, إن المغرب العربي يمتاز بنقاده الأدبيين أكثر من تميزه بأدبائه! يرد أحدهم: ربما كان ذلك صحيحاً, وربما لم يصلنا أدبهم كما يجب, فكثير من أدباء المغرب العربي يكتب بالفرنسية. يؤكد آخر: قد نوافق على تفوق النقاد المغاربة لكنهم لم يتفوقوا على المشارقة في الأدب! يضطلع ثالث بالكلام: أعتقد أن ثمة فجوة بين جناحي الوطن العربي – مشرقه ومغربه – ولكن ماذا عن دول الخليج العربي؟ يتوافق المتحدثون على ريادة الكويت التي شهدت حركة استنارة منذ بداية الستينيات مشيرين إلى سلسلة الإصدارات المتميزة كعالم المعرفة وعالم الفكر ,والمسرح العالمي... يتدخل الأول: لا تنسوا دولة الإمارات! يرد الثاني: الفرق بين الدولتين أن للكويت مشروعاً ثقافياً بحتاً, أما الإمارات فتعتمد مشروعاً ثقافياً رابحاً تجارياً ... بعد صمت قليل نتساءل: وماذا عنا نحن السوريين؟ يضحك زميل ويقول بلهجة ساخرة: نحن نشجع الجميع! نحن كمن يحضر مباراة رياضية بين البرازيل والأرجنتين ونتقاسم الوقوف مع هذا الفريق أو ذاك,بكل روح رياضية, دون أن نتساءل وأين الفريق السوري؟! نحن متفرجون من طراز رفيع المستوى!!
[size=16]بمناسبة الحديث عن سورية, هل تعتقدون بوجود أسماء نقاد هامين؟ يرد أحدنا ممن يتابع الحركة النقدية ويكتب النقد أحياناً: النقاد الكبار بشكل عام مصريون, أما النقاد في سورية فمعظمهم أساتذة جامعيون أكاديميون يكتبون الدراسة النقدية كما يكتبون المحاضرة التي سيلقونها على طلابهم, وثمة فرق بالطبع بين هذه وتلك, بل إن بعضهم عمد إلى جمع محاضراته وطبعها في كتاب نقدي! النقاد السوريون أيضاً مهذبون للغاية, لعل أغزرهم إنتاجاً الدكتور عبد الله أبو هيف الذي يتمتع بذاكرة قوية, قد يقدم في كتابه نقداً لأكثر من مئة مجموعة قصصية, لكننا لن نجد بينها قصة واحدة دون الوسط, فالجميع متميزون وجيدون , والنقاد السوريون يكتبون بشكل متشابه فهم يكتبون في مقالة واحدة عن الزمان والمكان وبناء الشخصيات... ولا تفرد مقالة واحدة لمفردة محددة من تلك المفردات. يقول آخر: معظم نقادنا كانوا كتاب قصة ثم تحولوا إلى النقد منهم أبو هيف, والدكتور نضال الصالح, وأعتقد أنهما قمة النقد في سورية, طبعاً أبو هيف أكثر غزارة, لكن الصالح أكثر إشارة للسلبيات! ولن نغفل الدكتور سمر روحي الفيصل المعروف على الساحة العربية, وجورج طرابيشي الناقد المهم الذي يكتب بحرفية عالية رغم أننا قد لا نوافقه في كل آرائه.
[size=16]انتقل الحديث بعدئذ إلى مكان خطر على ما أعتقد, حين بدأنا نتساءل عن الشللية, ومن يقود الفعل الثقافي في سورية, أو لنقل في دمشق, وثمة حديث عن تيارين غير معلنين – أو ربما معلنين – يتواجهان ويسوقان لمشاريع مختلفة, سيطرأ السؤال الأهم: من يسوق لبعض الأسماء ويلمعها؟ من يسوق أسماء بعينها للمنابر الدولية لتمثل سورية؟ ويدخل الحديث مرحلة أكثر جدية, عندما يلقي أحدنا ما في جعبته عن كتاب هام يحمل عنوان ( الحرب الباردة الثقافية ) هنا كان لابد لي من العودة إلى بعض المراجع والأصدقاء وشبكة الانترنت لتشكيل فكرة أوسع عن ذلك الكتاب ومحتوياته وفيما يلي ملخص البحث:
[size=16]الحرب الثقافية الباردة
[size=16]قامت بتأليف الكتاب الكاتبة الإنكليزية فرانسيس ستونر سوندرز، وترجمه إلى العربية طلعت الشايب، وقدمه عاصم الدسوقي، وصدر عن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (العدد 279)، صدرت طبعته الإنكليزية الأولى عام 1999 بعنوان “من الذي دفع للزمار؟” وصدرت الطبعة الثانية في نيويورك عام 2000 . يضع كتاب الحرب الباردة الثقافة أمام القارئ ، قصة منظمة الحرية الثقافية الأمريكية, قصة الهيمنة الأمريكية، وقصة الجاسوسية الأمريكية في مجال الثقافة، أو في مجال الآداب والفنون، من خلال جهود جوسلسون العقل المدبر لحملة الدعاية الثقافية الأمريكية المضادة للسوفييت، ومعه فريق من العمل يتكون من: ميلفن لاسكي، وفلاديمير نابوكوف، وجان كوكتو، وغيرهم، وسنفاجأ بكتَّاب عالميين، كانوا أداة طيعة في يد منظمة الحرية الثقافية التي تديرها المخابرات الأمريكية ـ سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا ـ، مثل: أرنست همنجواي، آرثر ميللر، إيليا تولستوي (حفيد الروائي الروسي الشهير)، روبرت لويل، أندريه مالرو، جون ديوي، كارل ياسبرز، إلبرتو موارفيا، هربرت ريد، ستيفن سبندر، أودن، نارايان (الهندي)، ألن تيت، إيتالو كالفينو، فاسكو براتوليني، فضلا عن الفنانين تشارلي شابلن، مارلون براندو، رونالد ريجان (الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة) وغيرهم. لقد أصبح عشراتٌ من المثقفين الغربيين مرتبطين ب C IA عن طريق حبل الذهب السري. بحلول منتصف الستينيات كانت المنظمة قد وسعت من برنامج مطبوعاتها ليشمل مناطق أخرى ذات أهمية استراتيجية في أفريقيا والعالم العربي والصين. وعلى سبيل المثال كان من المجلات الصادرة في الوطن العربي التي تتلقى إعانات من مؤسسات تابعة ل C IA تحت مظلة «مجلس المجلات الأدبية»، مجلة «شعر» التي كانت منظمة الحرية الثقافية تشتري منها 1500 نسخة، ومجلة «حوار»، وهي مجلة المنظمة الصادرة باللغة العربية والتي ظهرت في أكتوبر 1962 وعلى صفحات عددها الأول مقابلة مع ت. س. إليوت.
[size=16]لعلي أكتفي الآن بما قدمت آملة أن يتأمل المعنيون والمثقفون الحقيقيون فيما يجري على الساحة الثقافية السورية بجدية أكبر