فلسطين عاصمة للثقافة

صياح في آخر الطريق (*)

حلّت ساعة الوضع، تصبب العرق من جبينها، تعثر تنفسها، أخذت تمشي وتجيء، والشمس توشك على الغروب، أين ستضع؟ ريح باردة تهبّ من الشرق وعجوز قادمة تتوكّأ عصا، لقد انحنى ظهرها وجبينها مصرّ على مواجهة السماء، تجعُّد كِبَر ولكنه خشن يذكر بأيدي الفلاحين وأصحاب الصّنائع، اقتربت من المرأة وقالت:
- حان الوقت للولادة يا ابنتي.
لم تجد مكانا مناسبا للوضع، المنازل تحطّمت والأشجار احترقت، حجر وحطب هنا وهناك العجوز أصرّت على موافقتها همست لها:
- إلى غابة الزيتون يا ابنتي.
سارتا معا وكأنهما عجوزان وقد ثقلت خطاهما واشتدّ الألم. جماعة من الجنود انتشروا على طول الطريق في حالة ركوع.. إنهم يزيلون الحجارة والصّخور والعجلات المطاطية الملتهبة وقطع الحديد، إنه الوقت المناسب لهم للقيام بمثل هذه المهمّة.
- أمّاه، ما بالهم يركعون؟ أهو إكبار لنا؟
- إنهم لا يركعون، إنهم يزيلون الحجر.
- آه، يا أمّاه اشتدّ الوجع ماذا أفعل؟
- اصبري يا ابنتي نحن على مقربة من المكان، تلك الشجرة هناك شجرة الزيتون.. صبرا جميلا يا ابنتي..
دخلتا في مسلك الغابة في اتجاه شجرة الزيتون وعند الوصول سوّت العجوز بما تبقّى لها من جهد الأرض فرفعت بعض الحطب وسلّمتها نطاقها وأمرت المرأة لتشدّه إلى غصن الزيتونة وما أن انتهت اشتدّ وجعها وأخذت في الصّياح وراحت العجوز تربّت على كتفها تارة وتمسح العرق المتصبّب من جبينها تارة أخرى قائلة:
- توكّلي على الله يا ابنتي، عسر سيزول بحول الله..
لفت انتباه بعض الجنود صياح المرأة، فراح يبحث عن مصدره.. مسك سلاحه بيمينه وانطلق يعدو في الاتجاه.. الظلام خيم على المكان، سقط على الأرض، اصطدم بصخرة صغيرة ناتئة تمسّك نصفها بالأرض..سبّها لعنها.. سال الدّم من يده اليسرى وخدشت ركبته.. انتصب قائما وواصل السير بتعثّر.
- امرأتان ومولود لعين كم تلد نساؤهم هذه الأيام، عجيب أمرهن وأمرهم..!
اختفى وراء صخرة قريبة من شجرة الزيتون فرأى هناك العجوز تلاعب المولود والأمّ تبتسم وقد وضعت في يده حصاة صغيرة قالت العجوز:
- يا أمّ صخر ناوليه ثديك وأرضعيه جيّدا وأنت يا صخر ستكبر وستكبر حصاتك وتصبح حجارة.
اضطرب الجندي وارتعد في مكانه ووضع يديه على خدّيه وخاطب نفسه:
- ماذا قدّمنا لأطفالنا ساعة الولادة؟؟